25‏/12‏/2016

مقدّمة الكتاب

بعد أن مضغني الدهر ولاكني، بصقني إلى بلاد بعيدة، لم أكن أتخيل لحظة أني أزورها في إجازة، فكيف وقد حكم الزمان أن أعيش فيها بدل العيش في موطني؟؟

وبلاد الغرب تختلف اختلافا جذرياً عن بلادنا العربية كلها، إن كان من جهة الطبيعة والبيئة،
أو من جهة عادات الناس وتقاليدهم،
أو من جهة المفهوم الديني، (بغضّ النظر عن نوع الدين الذي ينتمي اليه الناس)
أو من جهة "التفنن الحضاري"، والقيم والمثل.
إلى غير ذلك من قائمة المتناقضات والاختلافات الطويلة.
كنت أظن، عندما غادرت الوطن،
أننا ابتلينا هناك بحالات سياسية واجتماعية، ترسّخ فينا الجهل، وتؤخّر نمونا الحضاري، وتسيطر على الحريّات الفكرية والشخصية والسياسية والإجتماعية 
وكنت أتخيّل، أن بلاد الغرب هي بلاد الحضارات، والديموقراطيات، وأنّها مهد التمدن والتقدم العلمي والنمو الاقتصادي
غير أني صعقت، لما رأيت أنّ بلاد الإفرنج لا تختلف بالقياس عن بلادنا، وولاتها لا يعلون أي درجة عن ولاتنا.
بل على العكس.. فإنه ليكاد أن يكون حكّامنا صادقين، أو صريحين أو واضحين فيما هم قائمين عليه وعلينا
أمّا حكّام وحكومات وإدارات بلاد الإفرنج، فإنهّم الخبث عينه، والدّهاء نفسه، والكذب كلّه
والحضارة عندهم،
ليست إلاّ طريقاً معبّدة إلى بيت إبليس،
والمدنية عندهم،
ليست إلاّ ستاراً مسدلاً على الظلم الاجتماعي،
والديموقراطية عندهم،
ليست إلاّ حاجباً يحجب التعسف السياسي،
وما يتغنّون به من قوانين وأنظمة،
ليست كلّها إلاّ "فرمانات ثعبانية"
المقصود منها معاقبة الشعب وتغريمه على مدار السنة.

عندما تحققت من هذا كله، أيقنت أشياء كثيرة:

أيقنت أنّ التقنية باتت مرآة كبيرة تأخذ من عالم الحضارات الجديدة كلّ الفساد وتعكسه بسرعة البرق، على كلّ أنحاء العالم.
وأدركت أنّ الشمس أضحت تحمل السمّ في خيوطها الشعاعية، وتهبط به على فكر الناس وعقولهم وقلوبهم، ليسمّم أفكارهم، ويذبل إحساسهم، ويقتل عواطفهم.

وعرفت أنّ الليل أصبح أطول من النهار.
وأنّ الموت شاع وانتشر الدمار.
وأنّ الحب ذبل وعدم الوقار
وأنّ الشر أصبح هو الحاكم المختار.

ولكن رغم معركة الموت
سلم الأمل

الأمل في أن يرجع العصفور إلى الدار.
والأمل في أن تلين القلوب وتتفتّح الأزهار.
والأمل في أن يفور الماء ليسقي البذار.
والأمل في أن تصدح نغمة الحب مع خرير الأنهار.
والأمل في أن يعود ليعقوب نظره،
ويرجع داود يغنّي على المزمار.
والأمل في أن يخلص أيوب من بلواه،
ويعبق الفرج على الناس
كما يعبق الأريج من الأثمار.

وليس زقزقة قلوب، إلا محاولة لإرجاع الزمان إلى نصابه الحلو..
إرجاع الزمان إلى أيام زمان،
أيّام كان الزمان إنساناً طيباً عطوفاً،
أيّام كان الحلم فرحة،
والفرحة حقيقة وواقعاً.

أيّام زمان
عندما كان الطفل لا يحلم غير الهناء والصفاء،
والفتاة تحلم الحب بطابع الحياء،
والفتى لا يحلم غير العنفوان والإباء.

هكذا عرفنا أولادنا،
هكذا عرفنا أحلامهم وأحلامنا،
هكذا يجب أن تكون الأحلام.

فنحن لا نريد لأولادنا، أحلاماً سينمائية تتفتّق خيالات موحشة من جنس وعنف وكفر وإلحاد وفقر ومخدرات.
بل نريد أن يحلم أولادنا،
بالعز والفخر والمثل العليا.
وأن يروا في أحلامهم
الأنبياء ورجالات التاريخ والعلم والأدب والثقافة،
فتزقزق قلوبهم فخراً وعزّاً وزهاء واعتدادا.

نريد لبناتنا أن يحلمن بالشعر والغزل والهوى البرئ،
وأن يحلمن بالفارس الأبيض
والزوج المثالي والمستقبل المشرق،
فتزقزق قلوبهن سعادة ونشوى وهناء

نريد لأجيالنا الناشئة،
أن تربو على الثقافة والعلم والفهم،
نريد أولادنا أن يحبّوا لا أن يكرهوا،
نريدهم أن يبنوا ويفكروا،
لا أن يهدموا ويدمروا.

نريد لهم الحياة الحلوة الطّيبة،
نريد لهم البراءة والصدق،
نريد لهم الصفاء والود.
نريد لهم الحلم الجميل.

"زقزقة قلوب"
كتاب صادر من ..حشاشة زماننا
وموجّه إلى أحلام أولادنا
 ………حشاشة أكبادنا.
المؤلف


سامي الشرقاوي

ليست هناك تعليقات: